الأزمة المالية والتعليم العالي في المملكة- نظرة نقدية وتحليل للواقع
المؤلف: محمد القنيبط08.14.2025

منذ بضعة أيام، تلقت الجامعات الحكومية "برقية خطية مستعجلة" من وزير التعليم الموقر الدكتور أحمد العيسى، وتضمنت البرقية النص التالي:
"بالإشارة إلى خطاب معالي وزير المالية رقم... وتاريخ... والمُتضمن الإشارة إلى الظروف المالية التي تمر بها الميزانية العامة للدولة، والأوامر السامية والقرارات والتعليمات الصادرة بشأنها، وطلب معاليه إعادة النظر في كيفية توزيع الحصص التدريسية المقررة لكل عضو من أعضاء هيئة التدريس، بما يضمن التوقف التام عن الاستعانة بالمتعاونين، والوقف الفوري للساعات الزائدة، على أن يتم التقيد التام بذلك بدءاً من العام الدراسي 1437 / 1438هـ. لذا نأمل منكم الاطلاع والالتزام بما جاء في الخطاب."
بادئ ذي بدء، يجب التشديد والتأكيد على أنه لا يوجد أي مسوغ مالي أو اقتصادي لحالة الهلع الاقتصادي والمالي التي طغت على سمعة المملكة العربية السعودية على الصعيدين المحلي والدولي، وذلك بسبب هذه البرقيات والتصريحات المتكررة من قبل مسؤولي المالية والاقتصاد والتخطيط والخدمة المدنية. ويأتي في مقدمة هذه التصريحات، تصريح نائب وزير الاقتصاد والتخطيط الذي أشار إلى إمكانية إفلاس المملكة خلال فترة لا تتجاوز الثلاث سنوات والنصف، أو تلك التصريحات التي زعمت أن إنشاء الجامعات كان ضرباً من الترف، وأخيراً التصريح المؤسف الذي قلل من إنتاجية الموظف السعودي واعتبرها لا تتجاوز الساعة الواحدة في اليوم.
لقد شهدت المملكة العربية السعودية بعد نهاية الطفرة النفطية الأولى في عام (1404هـ) ظروفاً مالية أكثر صعوبة وقسوة بكثير مما نشهده اليوم. ففي تلك الفترة، استهلكت المملكة جميع احتياطياتها النقدية واقترضت مبالغ طائلة تجاوزت الـ 700 مليار ريال، ومع ذلك لم نسمع آنذاك أي مسؤول يتفوه بمثل هذه التصريحات غير المسؤولة، والتي تأتي في وقت تحشد فيه المملكة كل إمكاناتها وطاقاتها الاقتصادية والبشرية، وتستغل علاقاتها وثقلها الدولي بحكم عضويتها الفاعلة في مجموعة العشرين، وذلك استعداداً للانطلاق بقوة نحو تحقيق تطلعات رؤية 2030 وأهدافها الوطنية الطموحة.
وبعد هذا، اسمحوا لنا بعرض عشر وقفات تحليلية وتأملية حول محتوى هذه البرقية الخطية العاجلة:
الوقفة الأولى:
إن المشكلة الأزلية والمستمرة التي يعاني منها كبار مسؤولي وزارة المالية منذ عهد أول وزير للمالية، تكمن في إيمانهم الراسخ والجازم بأنهم يمتلكون معرفة دقيقة وشاملة بكل صغيرة وكبيرة في جميع الأجهزة الحكومية. بل يذهبون إلى أبعد من ذلك، فهم يؤمنون بأنهم أكثر علماً ودراية من مسؤولي تلك الأجهزة نفسها فيما يجب فعله وما لا يجب فعله لإدارة تلك الأجهزة بكفاءة وفاعلية عالية. وبالتالي، فإنهم يرون أن قراراتهم هي الأكثر حكمة والأشد حرصاً على مصلحة البلاد والعباد على أرض مملكتنا الغالية.
الوقفة الثانية:
لماذا يُحمِّل وزير المالية نفسه عبء التدخل في أمر بالغ الدقة والخصوصية يتعلق بشؤون التعليم العالي، وهو موضوع "المتعاونين" مع الجامعات الحكومية والساعات الزائدة لأعضاء هيئة التدريس؟! هل يعلم معاليه ما هي المزايا المالية الهائلة التي يحصل عليها العاملون بنظام اليومية، والذين يُطلق عليهم تصنيف "المتعاونين" في الجامعات الحكومية؟! هل يعلم معاليه أن هؤلاء المتعاونين يتمتعون بحقوق أقل بكثير من حقوق العمال اليوميين، حيث يتقاضون أتعابهم ليس كراتب شهري ثابت، بل كمقابل مادي عن كل ساعة تدريسية، دون أي تغطية تأمينية في التأمينات الاجتماعية؟! وليس هذا فحسب، بل إنهم لا يستلمون مستحقاتهم المالية هذه، وكذلك زملاؤهم المستحقون للساعات الزائدة، إلا بعد انتهاء الفصل الدراسي بأسابيع، وفي بعض الأحيان بأشهر.
الوقفة الثالثة:
هل يعتقد معالي وزير المالية أن الجامعات لجأت إلى الاستعانة بالمتعاونين من باب "الدلال والترفيه"، أم بسبب حاجة ماسة وضرورية لضمان استمرار العملية التعليمية الجامعية؟! هل يعقل أن يقوم وزير المالية، وبمجرد توقيع قلم، بإصدار أمر للجامعات الحكومية بالوقف الفوري والشبه كامل عن الاستعانة بالمتعاونين والساعات الزائدة، وكأن هذه الممارسة كانت نوعاً من الترف الأكاديمي، وليست ضرورة أكاديمية حتمية فرضتها عوامل عدة، منها: (1) حقيقة عدم وجود وظائف كافية للمعيدين والمحاضرين السعوديين المقيمين، (2) النقص الحاد والشديد في أعداد أعضاء هيئة التدريس في بعض المواد والتخصصات التي استلزمت اللجوء إلى التعاون والساعات الزائدة، (3) وصول أعضاء هيئة التدريس إلى الحد الأقصى من النصاب التدريسي الذي حدده نظام التعليم العالي؟!
الوقفة الرابعة:
لقد كان الأمل معقوداً على أن يكون وزير المالية أكثر حكمة وتبصراً، وأن يطلب من وزارة التعليم تخفيض أو إلغاء بند المخصصات المالية للمتعاونين والساعات الزائدة في الجامعات تدريجياً خلال فترة زمنية معقولة، كعام أو عامين مثلاً، بدلاً من أن يمعن في تدخله غير المبرر في التفاصيل الدقيقة والجزئيات الصغيرة للتعليم الجامعي، وأن ينصب نفسه خبيراً في شؤون التعليم العالي ومجريات الأمور الأكاديمية داخل الجامعات السعودية وأقسامها الأكاديمية، ولكنه لم يفعل. فنرى معاليه قد ذهب في خطابه إلى وزير التعليم إلى أبعد الحدود، حيث قام بتمحيص وتدقيق شديدين في مواضيع توزيع الحصص والأعباء التدريسية لأعضاء هيئة التدريس في الجامعات الحكومية، حتى يخرج بأمره لوزارة التعليم بوقف الاستعانة بالمتعاونين والساعات الزائدة بدءاً من العام الدراسي 1437 / 1438هـ، الذي يوشك فصله الأول على الانتهاء بعد شهرين فقط. فهل يعتقد وزير المالية أن العبء التدريسي في الجامعات يجب أن يكون 24 حصة/ساعة أسبوعياً، قياساً بالتعليم العام؛ على الرغم من أن أهم أسباب تخلف التعليم العام السعودي هو وقوف المعلم لمدة خمس ساعات يومياً أمام الطلاب في خمسة فصول دراسية مختلفة؟!
الوقفة الخامسة:
لقد كان الأمل معقوداً على وزير المالية بأن يعيد حسابات خبرائه ومستشاريه بشأن الراتب الأساسي للدكاترة غير السعوديين، والذي يبدأ بستة آلاف ريال شهرياً للأستاذ المساعد حديث التخرج وبدون بدل السكن الذي ألغته إجراءات التقشف الأخيرة، وأن يتأكدوا من أن هذا الراتب "العظيم" يكفي لاستقطاب دكتور عربي أو أعجمي متخرج من جامعات غربية مرموقة، لكنه لم يفعل. هل يعلم وزير المالية ماذا تساوي ستة آلاف ريال شهرياً؟ إنها أقل بـ 525 ريالاً من راتب عامل في محل كوفي شوب في أمريكا (حيث الحد الأدنى للأجور في أمريكا هو 7.25 دولار/ساعة)، علماً بأن شركة ستاربكس تدفع 15 دولاراً في الساعة للعاملين في محلاتها بأمريكا مع ضمان صحي شامل. فهل سيأتي إلينا دكتور عربي متخرج من جامعات مرموقة في أمريكا وكندا وأوروبا، إذا كان بإمكانه الحصول على راتب أعلى من ذلك في محل كوفي شوب؟!
الوقفة السادسة:
حين تم تعيين الدكتور أحمد العيسى وزيراً للتعليم، استبشر منسوبو التعليم العالي خيراً بهذا الاختيار الموفق على وجه الخصوص، كون معاليه قادماً من أروقة التعليم العالي بحكم توليه إدارة جامعة اليمامة الأهلية منذ إنشائها واكتسابها شهرة محلية واسعة، وكذلك تأليفه لأهم كتابين عن التعليم في المملكة؛ مما أعطى انطباعاً بأنه بالفعل He Talks the Talk. لكن هذا التفاؤل بدأ يخفت تدريجياً يوماً بعد يوم، حينما لم ير المجتمع حتى الآن رؤية واضحة لدى وزارة التعليم، سواء على مستوى التعليم العام أو التعليم العالي، وكأن لسان حال المهتمين بالتعليم وشؤونه وشجونه يتساءل: ?Can He Walk the Talk
فكيف بنا الآن وقد أضيف التعليم والتدريب الفني إلى مسؤوليات معاليه، ليصبح عدد البشر الذين يديرهم وزير التعليم يتجاوز ثمانية ملايين طالب وطالبة ومعلم ومعلمة ودكتور ودكتورة وموظف وموظفة؟!
الوقفة السابعة:
من الواضح والجلي أن وزير التعليم قد غرق حتى أذنيه في شؤون التعليم العام، حتى أنه لم يعد قادراً على التمييز بين الحصة والمحاضرة، حيث إن الأولى تتعلق بالتعليم العام بينما الثانية تتعلق بالجامعات. فإما أنه لم يقرأ البرقية الخطية العاجلة بعد طباعتها، أو أنه بالفعل في حيرة من أمره، هل البرقية تتعلق بالمدارس الابتدائية أم الجامعات.
الوقفة الثامنة:
لقد كان الأمل معقوداً على أن يقوم وزير التعليم بالوقوف سداً منيعاً في وجه النظرة المالية البحتة التي تتبناها وزارة المالية تجاه جميع الأجهزة الحكومية، وأن يمنعها من تقويض قدرة الجامعات على استقطاب المتميزين من الدكاترة والباحثين، سواء كانوا سعوديين أم غير سعوديين، بدلاً من أن يبصم على كل خطاب وبرقية تأتيه من وزارة المالية، ويعيد إرسالها إلى الأجهزة والجهات التعليمية التي تجزم وزارة المالية بأنها لا تعرف كيف تدير أمورها الأكاديمية والتعليمية والمالية، ولكنه لم يفعل.
الوقفة التاسعة:
لقد كان الأمل كبيراً والطموح عالياً بأن يقوم وزير التعليم بفك ارتباط إدارات التعليم في مناطق المملكة الثلاث عشرة بوزارة التعليم، وأن يعطي كلاً منها ميزانيتها المخصصة لها، لتنفقها كيفما تشاء تحت رقابة مجلس المنطقة الإدارية برئاسة أميرها، لتتنافس في مخرجاتها التعليمية مع بقية المناطق الإدارية بالمملكة؛ ولكنه لم يفعل.
الوقفة العاشرة:
لقد كان الأمل معقوداً على أن يقوم وزير التعليم بإعادة تقويم السنة التحضيرية في الجامعات لتخدم الهدف الحقيقي الذي أنشئت من أجله، كما استفادت منه الجامعة الرائدة في المملكة، جامعة الملك فهد للبترول والمعادن، ولكنه لم يفعل. وقد كان الأمل كبيراً بأن يقوم وزير التعليم بإعادة دراسة أهداف الجامعات الحكومية الثماني والعشرين، ليكون لكل جامعة تميز خاص يميزها عن جارتها؛ كما هو الوضع في جامعة الملك فهد للبترول والمعادن، ولكنه لم يفعل. كذلك كان الأمل كبيراً جداً بأن يقوم وزير التعليم بإعادة تطبيق النظام الحقيقي للدراسة بالساعات لجميع الجامعات الحكومية، وليس النظام الحالي السائد في جميع الجامعات الحكومية (باستثناء جامعة الملك فهد للبترول والمعادن)، والذي هو إما نظام فصلي بحت، أو مولود مشوه بين النظام الفصلي ونظام الساعات؛ ولكنه لم يفعل.
وخلاصة القول، إن الأجهزة الحكومية في هذه الأيام تدار باستراتيجية "الإدارة بالأزمات" Crisis Management، وهي أزمة الهلع المالي غير المبررة التي سببت وتسبب تشاؤماً اقتصادياً واجتماعياً بالغ الخطورة، وأدت إلى حالة الركود الاقتصادي الخطيرة التي تعاني منها المملكة منذ بداية العام الحالي، وجعلت المملكة محط سخرية الصحافة العالمية السياسية والاقتصادية بسبب التصريحات غير المسؤولة لبعض كبار المسؤولين.
فهل من أمل في تحكيم العقل والمنطق، وإدراك أننا بحاجة ماسة أكثر من أي وقت مضى إلى إدراك نقاط الضعف والقوة في جميع أجزاء وجزيئات مملكتنا الغالية، وأن نتعامل معها من موقع الدولة النفطية الأهم في العالم، والتي هي أيضاً عضو مهم وفاعل في مجموعة العشرين؛ لا من موقع دولة فقيرة معدمة؛ وذلك حتى نتمكن من تحقيق الأهداف الوطنية الجميلة والرائعة لرؤية 2030؟!
"بالإشارة إلى خطاب معالي وزير المالية رقم... وتاريخ... والمُتضمن الإشارة إلى الظروف المالية التي تمر بها الميزانية العامة للدولة، والأوامر السامية والقرارات والتعليمات الصادرة بشأنها، وطلب معاليه إعادة النظر في كيفية توزيع الحصص التدريسية المقررة لكل عضو من أعضاء هيئة التدريس، بما يضمن التوقف التام عن الاستعانة بالمتعاونين، والوقف الفوري للساعات الزائدة، على أن يتم التقيد التام بذلك بدءاً من العام الدراسي 1437 / 1438هـ. لذا نأمل منكم الاطلاع والالتزام بما جاء في الخطاب."
بادئ ذي بدء، يجب التشديد والتأكيد على أنه لا يوجد أي مسوغ مالي أو اقتصادي لحالة الهلع الاقتصادي والمالي التي طغت على سمعة المملكة العربية السعودية على الصعيدين المحلي والدولي، وذلك بسبب هذه البرقيات والتصريحات المتكررة من قبل مسؤولي المالية والاقتصاد والتخطيط والخدمة المدنية. ويأتي في مقدمة هذه التصريحات، تصريح نائب وزير الاقتصاد والتخطيط الذي أشار إلى إمكانية إفلاس المملكة خلال فترة لا تتجاوز الثلاث سنوات والنصف، أو تلك التصريحات التي زعمت أن إنشاء الجامعات كان ضرباً من الترف، وأخيراً التصريح المؤسف الذي قلل من إنتاجية الموظف السعودي واعتبرها لا تتجاوز الساعة الواحدة في اليوم.
لقد شهدت المملكة العربية السعودية بعد نهاية الطفرة النفطية الأولى في عام (1404هـ) ظروفاً مالية أكثر صعوبة وقسوة بكثير مما نشهده اليوم. ففي تلك الفترة، استهلكت المملكة جميع احتياطياتها النقدية واقترضت مبالغ طائلة تجاوزت الـ 700 مليار ريال، ومع ذلك لم نسمع آنذاك أي مسؤول يتفوه بمثل هذه التصريحات غير المسؤولة، والتي تأتي في وقت تحشد فيه المملكة كل إمكاناتها وطاقاتها الاقتصادية والبشرية، وتستغل علاقاتها وثقلها الدولي بحكم عضويتها الفاعلة في مجموعة العشرين، وذلك استعداداً للانطلاق بقوة نحو تحقيق تطلعات رؤية 2030 وأهدافها الوطنية الطموحة.
وبعد هذا، اسمحوا لنا بعرض عشر وقفات تحليلية وتأملية حول محتوى هذه البرقية الخطية العاجلة:
الوقفة الأولى:
إن المشكلة الأزلية والمستمرة التي يعاني منها كبار مسؤولي وزارة المالية منذ عهد أول وزير للمالية، تكمن في إيمانهم الراسخ والجازم بأنهم يمتلكون معرفة دقيقة وشاملة بكل صغيرة وكبيرة في جميع الأجهزة الحكومية. بل يذهبون إلى أبعد من ذلك، فهم يؤمنون بأنهم أكثر علماً ودراية من مسؤولي تلك الأجهزة نفسها فيما يجب فعله وما لا يجب فعله لإدارة تلك الأجهزة بكفاءة وفاعلية عالية. وبالتالي، فإنهم يرون أن قراراتهم هي الأكثر حكمة والأشد حرصاً على مصلحة البلاد والعباد على أرض مملكتنا الغالية.
الوقفة الثانية:
لماذا يُحمِّل وزير المالية نفسه عبء التدخل في أمر بالغ الدقة والخصوصية يتعلق بشؤون التعليم العالي، وهو موضوع "المتعاونين" مع الجامعات الحكومية والساعات الزائدة لأعضاء هيئة التدريس؟! هل يعلم معاليه ما هي المزايا المالية الهائلة التي يحصل عليها العاملون بنظام اليومية، والذين يُطلق عليهم تصنيف "المتعاونين" في الجامعات الحكومية؟! هل يعلم معاليه أن هؤلاء المتعاونين يتمتعون بحقوق أقل بكثير من حقوق العمال اليوميين، حيث يتقاضون أتعابهم ليس كراتب شهري ثابت، بل كمقابل مادي عن كل ساعة تدريسية، دون أي تغطية تأمينية في التأمينات الاجتماعية؟! وليس هذا فحسب، بل إنهم لا يستلمون مستحقاتهم المالية هذه، وكذلك زملاؤهم المستحقون للساعات الزائدة، إلا بعد انتهاء الفصل الدراسي بأسابيع، وفي بعض الأحيان بأشهر.
الوقفة الثالثة:
هل يعتقد معالي وزير المالية أن الجامعات لجأت إلى الاستعانة بالمتعاونين من باب "الدلال والترفيه"، أم بسبب حاجة ماسة وضرورية لضمان استمرار العملية التعليمية الجامعية؟! هل يعقل أن يقوم وزير المالية، وبمجرد توقيع قلم، بإصدار أمر للجامعات الحكومية بالوقف الفوري والشبه كامل عن الاستعانة بالمتعاونين والساعات الزائدة، وكأن هذه الممارسة كانت نوعاً من الترف الأكاديمي، وليست ضرورة أكاديمية حتمية فرضتها عوامل عدة، منها: (1) حقيقة عدم وجود وظائف كافية للمعيدين والمحاضرين السعوديين المقيمين، (2) النقص الحاد والشديد في أعداد أعضاء هيئة التدريس في بعض المواد والتخصصات التي استلزمت اللجوء إلى التعاون والساعات الزائدة، (3) وصول أعضاء هيئة التدريس إلى الحد الأقصى من النصاب التدريسي الذي حدده نظام التعليم العالي؟!
الوقفة الرابعة:
لقد كان الأمل معقوداً على أن يكون وزير المالية أكثر حكمة وتبصراً، وأن يطلب من وزارة التعليم تخفيض أو إلغاء بند المخصصات المالية للمتعاونين والساعات الزائدة في الجامعات تدريجياً خلال فترة زمنية معقولة، كعام أو عامين مثلاً، بدلاً من أن يمعن في تدخله غير المبرر في التفاصيل الدقيقة والجزئيات الصغيرة للتعليم الجامعي، وأن ينصب نفسه خبيراً في شؤون التعليم العالي ومجريات الأمور الأكاديمية داخل الجامعات السعودية وأقسامها الأكاديمية، ولكنه لم يفعل. فنرى معاليه قد ذهب في خطابه إلى وزير التعليم إلى أبعد الحدود، حيث قام بتمحيص وتدقيق شديدين في مواضيع توزيع الحصص والأعباء التدريسية لأعضاء هيئة التدريس في الجامعات الحكومية، حتى يخرج بأمره لوزارة التعليم بوقف الاستعانة بالمتعاونين والساعات الزائدة بدءاً من العام الدراسي 1437 / 1438هـ، الذي يوشك فصله الأول على الانتهاء بعد شهرين فقط. فهل يعتقد وزير المالية أن العبء التدريسي في الجامعات يجب أن يكون 24 حصة/ساعة أسبوعياً، قياساً بالتعليم العام؛ على الرغم من أن أهم أسباب تخلف التعليم العام السعودي هو وقوف المعلم لمدة خمس ساعات يومياً أمام الطلاب في خمسة فصول دراسية مختلفة؟!
الوقفة الخامسة:
لقد كان الأمل معقوداً على وزير المالية بأن يعيد حسابات خبرائه ومستشاريه بشأن الراتب الأساسي للدكاترة غير السعوديين، والذي يبدأ بستة آلاف ريال شهرياً للأستاذ المساعد حديث التخرج وبدون بدل السكن الذي ألغته إجراءات التقشف الأخيرة، وأن يتأكدوا من أن هذا الراتب "العظيم" يكفي لاستقطاب دكتور عربي أو أعجمي متخرج من جامعات غربية مرموقة، لكنه لم يفعل. هل يعلم وزير المالية ماذا تساوي ستة آلاف ريال شهرياً؟ إنها أقل بـ 525 ريالاً من راتب عامل في محل كوفي شوب في أمريكا (حيث الحد الأدنى للأجور في أمريكا هو 7.25 دولار/ساعة)، علماً بأن شركة ستاربكس تدفع 15 دولاراً في الساعة للعاملين في محلاتها بأمريكا مع ضمان صحي شامل. فهل سيأتي إلينا دكتور عربي متخرج من جامعات مرموقة في أمريكا وكندا وأوروبا، إذا كان بإمكانه الحصول على راتب أعلى من ذلك في محل كوفي شوب؟!
الوقفة السادسة:
حين تم تعيين الدكتور أحمد العيسى وزيراً للتعليم، استبشر منسوبو التعليم العالي خيراً بهذا الاختيار الموفق على وجه الخصوص، كون معاليه قادماً من أروقة التعليم العالي بحكم توليه إدارة جامعة اليمامة الأهلية منذ إنشائها واكتسابها شهرة محلية واسعة، وكذلك تأليفه لأهم كتابين عن التعليم في المملكة؛ مما أعطى انطباعاً بأنه بالفعل He Talks the Talk. لكن هذا التفاؤل بدأ يخفت تدريجياً يوماً بعد يوم، حينما لم ير المجتمع حتى الآن رؤية واضحة لدى وزارة التعليم، سواء على مستوى التعليم العام أو التعليم العالي، وكأن لسان حال المهتمين بالتعليم وشؤونه وشجونه يتساءل: ?Can He Walk the Talk
فكيف بنا الآن وقد أضيف التعليم والتدريب الفني إلى مسؤوليات معاليه، ليصبح عدد البشر الذين يديرهم وزير التعليم يتجاوز ثمانية ملايين طالب وطالبة ومعلم ومعلمة ودكتور ودكتورة وموظف وموظفة؟!
الوقفة السابعة:
من الواضح والجلي أن وزير التعليم قد غرق حتى أذنيه في شؤون التعليم العام، حتى أنه لم يعد قادراً على التمييز بين الحصة والمحاضرة، حيث إن الأولى تتعلق بالتعليم العام بينما الثانية تتعلق بالجامعات. فإما أنه لم يقرأ البرقية الخطية العاجلة بعد طباعتها، أو أنه بالفعل في حيرة من أمره، هل البرقية تتعلق بالمدارس الابتدائية أم الجامعات.
الوقفة الثامنة:
لقد كان الأمل معقوداً على أن يقوم وزير التعليم بالوقوف سداً منيعاً في وجه النظرة المالية البحتة التي تتبناها وزارة المالية تجاه جميع الأجهزة الحكومية، وأن يمنعها من تقويض قدرة الجامعات على استقطاب المتميزين من الدكاترة والباحثين، سواء كانوا سعوديين أم غير سعوديين، بدلاً من أن يبصم على كل خطاب وبرقية تأتيه من وزارة المالية، ويعيد إرسالها إلى الأجهزة والجهات التعليمية التي تجزم وزارة المالية بأنها لا تعرف كيف تدير أمورها الأكاديمية والتعليمية والمالية، ولكنه لم يفعل.
الوقفة التاسعة:
لقد كان الأمل كبيراً والطموح عالياً بأن يقوم وزير التعليم بفك ارتباط إدارات التعليم في مناطق المملكة الثلاث عشرة بوزارة التعليم، وأن يعطي كلاً منها ميزانيتها المخصصة لها، لتنفقها كيفما تشاء تحت رقابة مجلس المنطقة الإدارية برئاسة أميرها، لتتنافس في مخرجاتها التعليمية مع بقية المناطق الإدارية بالمملكة؛ ولكنه لم يفعل.
الوقفة العاشرة:
لقد كان الأمل معقوداً على أن يقوم وزير التعليم بإعادة تقويم السنة التحضيرية في الجامعات لتخدم الهدف الحقيقي الذي أنشئت من أجله، كما استفادت منه الجامعة الرائدة في المملكة، جامعة الملك فهد للبترول والمعادن، ولكنه لم يفعل. وقد كان الأمل كبيراً بأن يقوم وزير التعليم بإعادة دراسة أهداف الجامعات الحكومية الثماني والعشرين، ليكون لكل جامعة تميز خاص يميزها عن جارتها؛ كما هو الوضع في جامعة الملك فهد للبترول والمعادن، ولكنه لم يفعل. كذلك كان الأمل كبيراً جداً بأن يقوم وزير التعليم بإعادة تطبيق النظام الحقيقي للدراسة بالساعات لجميع الجامعات الحكومية، وليس النظام الحالي السائد في جميع الجامعات الحكومية (باستثناء جامعة الملك فهد للبترول والمعادن)، والذي هو إما نظام فصلي بحت، أو مولود مشوه بين النظام الفصلي ونظام الساعات؛ ولكنه لم يفعل.
وخلاصة القول، إن الأجهزة الحكومية في هذه الأيام تدار باستراتيجية "الإدارة بالأزمات" Crisis Management، وهي أزمة الهلع المالي غير المبررة التي سببت وتسبب تشاؤماً اقتصادياً واجتماعياً بالغ الخطورة، وأدت إلى حالة الركود الاقتصادي الخطيرة التي تعاني منها المملكة منذ بداية العام الحالي، وجعلت المملكة محط سخرية الصحافة العالمية السياسية والاقتصادية بسبب التصريحات غير المسؤولة لبعض كبار المسؤولين.
فهل من أمل في تحكيم العقل والمنطق، وإدراك أننا بحاجة ماسة أكثر من أي وقت مضى إلى إدراك نقاط الضعف والقوة في جميع أجزاء وجزيئات مملكتنا الغالية، وأن نتعامل معها من موقع الدولة النفطية الأهم في العالم، والتي هي أيضاً عضو مهم وفاعل في مجموعة العشرين؛ لا من موقع دولة فقيرة معدمة؛ وذلك حتى نتمكن من تحقيق الأهداف الوطنية الجميلة والرائعة لرؤية 2030؟!